Hot Posts

6/recent/ticker-posts

الفلاسفة وتابعيهم إنما تمكن إبليس من التلبيس عَلَى الفلاسفة من جهة أنهم انفردوا بآرائهم وعقولهم وتكلموا بمقتضى ظنونهم من غير التفات إِلَى الأنبياء فمنهم من قَالَ بقول الدهرية أن لا صانع للعالم

 


‌‌ذكر تلبيسه عَلَى الفلاسفة وتابعيهم

إنما تمكن إبليس من التلبيس عَلَى الفلاسفة من جهة أنهم انفردوا بآرائهم وعقولهم وتكلموا بمقتضى ظنونهم من غير التفات إِلَى الأنبياء فمنهم من قَالَ بقول الدهرية أن لا صانع للعالم حكاه النوبختي وغيره عنهم وحكى النهاوندي أن أرسطاطا ليس وأصحابه زعموا أن الأَرْض كوكب فِي جوف هَذَا الفلك وأن فِي كل كوكب عوالم كَمَا فِي هَذَا الأَرْض وأنهارا وأشجارا وأنكروا الصانع وأكثرهم أثبت علة قديمة للعالم ثم قَالَ بقدم العالم وأنه لم يزل موجودا مَعَ اللَّه تعالى ومعلولا لَهُ ومساويا غير متأخر عنه بالزمان مساواة المعلول للعلة والنور للشمس بالذات والرتبة لا بالزمان فيقال لهم لم أنكرتم أن يكون العالم حادثا بإرادة قديمة اقتضت وجوده فِي الوقت الذي وجد فيه فَإِن قالوا فهذا يوجب أن يكون بين وجود الباري وبين المخلوقات زمان قلنا الزمان مخلوق وليس قبل الزمان زمان ثم يقال لهم كان الحق سبحانه قادرا عَلَى أن يجعل سمك الفلك الأعلى أكثر مما هو بذراع أَوْ أقل مما هو بذراع فَإِن قالوا لا يمكن فهو تعجيز ولأن مَا لا يمكن أن يكون أكبر مِنْهُ ولا أصغر فوجوده عَلَى مَا هو عَلَيْهِ واجب لا ممكن والواجب يستغني عَنْ علة وَقَدْ ستروا مذهبهم بأن قالوا اللَّه عز وجل صانع العالم وهذا تجوز عندهم لا حقيقة لأن الفاعل مريد لما يفعله وعندهم أن العالم ظهر ضروريا لا أن اللَّه فعله ومن مذاهبهم أن العالم باق أبدا كَمَا لا بداية لوجوده فلا نهاية قالوا لأنه معلول علة قديمة وكان المعلول مَعَ العلة ومتى كان العالم ممكن الوجود لم يكن قديما ولا معلولا وَقَدْ قَالَ جالينوس لو كانت الشمس مثلا تقبل الانعدام لظهر فيها ذبول1 فِي هذه المدة الطويلة فيقال لَهُ قد يفسد الشيء بنفسه بغتة لا بالذبول ثم من أين لَهُ أنها لا تذبل فإنها عندهم بمقدار الأَرْض مائة وسبعين مرة أَوْ نحو ذلك فلو نقص منها مقدار جبل لم يبن ذلك للحس ثم نحن نعلم أن الذهب والياقوت يقبلان الفساد وَقَدْ يبقيان سنين ولا يحس نقصانهما وإنما الإيجاد والإعدام بإرادة القادر والقادر لا يتغير فِي نفسه ولا تحدث لَهُ صفة وإنما يتغير الفعل بإرادة قديمة.
فصل: وحكى النوبختي فِي كتاب الآراء والديانات أن سقراط كان يزعم أن أصول الأشياء ثَلاثَة علة فاعلة والعنصر والصورة قَالَ وَاللَّه تعالى هو الفعال2 والعنصر هو الموضوع الأَوَّل للكون والفساد والصورة جوهر للجسم وقال آخر منهم اللَّه هو العلة الفاعلة والعنصر المنفعل وقال آخر منهم العقل رتب الأشياء هَذَا الترتيب وقال آخر منهم بل الطبيعة فعلته.
وحكى يَحْيَى بْن بشير بْن عمير النهاوندي أن قوما من الفلاسفة قالوا لما شاهدنا العالم مجتمعا ومتفرقا ومتحركا وساكنا علمنا أنه محدث ولا بد لَهُ من محدث ثم رأينا أن الإنسان يقع فِي الماء ولا يحسن السباحة فيستغيث بذلك الصانع المدبر فلا يغيثه أَوْ فِي النار فعلمنا أن ذلك الصانع معدوم قَالَ واختلف هؤلاء فِي عدم الصانع المدبر عَلَى ثلاث فرق فرقة عزمت أنه لما أكمل العالم استحسنه فخشي أن يَزِيد فيه أَوْ ينقص مِنْهُ فيفسد فأهلك نفسه وخلا مِنْهُ العالم وبقيت الأحكام تجري بين حيواناته ومصنوعاته عَلَى مَا اتفق وقالت الفرقة الثانية بل ظهر فِي ذات الباري تولول فلم يزل تنجذب قوته ونوره حتى صارت القوة والنور فِي ذلك التولول وَهُوَ العالم وساء نور الباري وكان الباقي منه سنور.
وزعموا أنه سيجذب النور من العالم إليه حتى يعود كَمَا كان ولضعفه عَنْ مخلوقاته أهمل أمرهم فشاع الجور وقالت الفرقة الثالثة: بل الباري لما أتقن العالم تفرقت أجزاؤه فيه فكل قوته فِي العالم فهي من جوهر اللاهوتية قَالَ الشيخ رحمه اللَّه هَذَا الذي ذكره النهاوندي نقلته من نسخة بالنظامية قد كتبت منذ مائتين وعشرين سنة ولولا أنه قد قيل ونقل فِي ذكره بيان مَا قد فعل إبليس فِي تلبيسه لكان الأولى الإضراب عَنْ ذكره تعظيما لله عز وجل أن يذكر بمثل هَذَا ولكن قد بينا وجه الفائدة فِي ذكره.
فصل: وقد ذهب أكثر الفلاسفة إِلَى أن اللَّه تعالى لا يعلم شيئا وإنما يعلم نفسه وَقَدْ ثبت أن المخلوق يعلم نفسه ويعلم خالقه فقد زادت مرتبة المخلوق عَلَى رتبة الخالق.
قال المصنف وهذا أظهر فضيحة من أن يتكلم عَلَيْهِ فانظر إِلَى مَا زينه إبليس لهؤلاء الحمقاء مَعَ ادعائهم كمال العقل وَقَدْ خالفهم أَبُو عَلِيّ بْن سيناء فِي هَذَا فَقَالَ بل يعلم نفسه ويعلم الأشياء الكلية ولا يعلم الجزئيات وتلقف هَذَا المذهب منهم المعتزلة وكأنهم استكثروا المعلومات فالحمد لله الذي جعلنا ممن ينفي عَن اللَّه الجهل والنقص ونؤمن بقوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا} وذهبوا إِلَى أن علم اللَّه وقدرته هو ذاته فرارا من أن يثبتوا قديمين وجوابهم أن يقال إنما هو قديم موجود واحد موصوف بصفات الكمال.
فصل: قال المصنف وَقَدْ أنكرت الفلاسفة بعث الأجساد ورد الأرواح إِلَى الأبدان ووجود جنة ونار جسمانيين وزعموا أن تلك أمثلة ضربت لعوام الناس ليفهموا الثواب والعقاب الروحانيين وزعموا أن النفس تبقى بعد الموت بقاء سرمديا أبدا إما فِي لذة لا توصف وهي الأنفس الكاملة أَوْ ألم لا يوصف وهي النفوس المتلوثة وَقَدْ تتفاوت درجات الألم عَلَى مقادير الناس وَقَدْ ينمحي عَنْ بعضها الألم ويزول فيقال لهم نحن لا ننكر وجود النفس بعد الموت ولذلك سمي عودها إعادة ولا أن لها نعيما وشقاء ولكن مَا المانع من حشر الأجسام ولم ننكر اللذات والآلام الجسمانية فِي الْجَنَّة والنار وَقَدْ جاء الشرع بذلك فنحن نؤمن بالجمع بين السعادتين وبين الشقاوتين الروحانية والجسمانية وأما الحقائق فِي مقام الأمثال فتحكم بلا دليل فَإِن قالوا الأبدان تنحل وتؤكل وتستحيل قلنا القدرة لا يقف بين يديها شيء عَلَى أن الإنسان إنسان بنفسه فلو صنع لَهُ البدن من تراب غير التراب الذي خلق مِنْهُ لم يخرج عَنْ كونه هو هو كَمَا أنه تتبدل أجزاؤه من الصغر إِلَى الكبر وبالهزال والسمن فَإِن قالوا لم يكن البدن بدنا حتى يرقى من حالة إِلَى حالة إِلَى أن صار لحما وعروفا قلنا قدرة اللَّه سبحانه وتعالى لا تقف عَلَى المفهوم المشاهد ثم قد أَخْبَرَنَا نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الأجسام تنبت فِي القبور قبل البعث وأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّارُ نا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِيّ نا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الزَّيَّاتِ ثنا قَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُطَرِّزُ ثنا أَبُو كُرَيْبٍ ثنا أَبُو مُعَاوِيَة عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ1 قَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَالَ أَبَيْتُ قَالُوا أَرْبَعُونَ شَهْرًا قَالَ أَبَيْتُ قَالُوا أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَبَيْتُ قَالَ ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مَاءً مِنَ السَّمَاءِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ قَالَ وَلَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلا يَبْلَى إِلا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجَبُ2 الذَّنَبِ مِنْهُ خُلِقَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" أخرجاه في الصحيحين.
فصل: وقد لبس إبليس عَلَى أقوام من أهل ملتنا فدخل عليهم من باب قوة ذكائهم وفطنتهم فأراهم أن الصواب اتباع الفلاسفة لكونهم حكماء قد صدرت منهم أفعال وأقوال دلت عَلَى نهاية الذكاء وكمال الفطنة كَمَا ينقل من حكمة سقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطاطا ليس وجالينوس وهؤلاء كانت لهم علوم هندسية ومنطقية وطبيعية واستخرجوا بفطنهم أمور خفية إلا أنهم لما تكلموا فِي الالهيات خلطوا ولذلك اختلفوا فيها ولم يختلفوا فِي الحسيات والهندسيات وَقَدْ ذكرنا جنس تخليطهم فِي معتقداتهم وسبب تخليطهم أن قوى البشر لا تدرك العلوم إلا جملة والرجوع فيها إِلَى الشرائع وَقَدْ حكى لهؤلاء المتأخرين فِي أمتنا أن أولئك الحكماء كانوا ينكرون الصانع ويدفعون الشرائع ويعتقدونها نواميس وحيلا فصدقوا فيما حكي لهم عنهم ورفضوا شعار الدين وأهملوا الصلوات ولابسوا المحذورات واستهانوا بحدود الشرع وخلعوا ربقة الإسلام فاليهود والنصارى أعذر منهم لكونهم متمسكين بشرائع دلت عليها معجزات والمبتدعة فِي الدين أعذر منهم لأنهم يدعون النظر فِي الأدلة وهؤلاء لا مستند لكفرهم إلا علمهم بأن الفلاسفة كانوا حكماء أتراهم مَا علموا أن الأنبياء كانوا حكماء وزيادة وما قد حكى لهؤلاء الفلاسفة من جحد الصانع محال فَإِن أكثر القوم يثبتون الصانع ولا ينكرون النبوات وإنما أهملوا النظر فيها وشذ منهم قليل فتبعوا الدهرية الذين فسدت أفهامهم بالمرة وَقَدْ رأينا من المتفلسفة من أمتنا جماعة لم يكسبهم التفلسف إلا التحير فلا هم يعملون بمقتضاه ولا بمقتضى الإسلام بل فيهم من يصوم رمضان ويصلي ثم يأخذ فِي الاعتراض عَلَى الخالق وعلى النبوات ويتكلم فِي إنكار بعث الأجساد ولا يكاد يرى منهم أحد إلا ضربه الفقر فأضر به فهو عامة زمانه فِي تسخط عَلَى الأقذار والاعتراض عَلَى المقدر حتى قَالَ لي بعضهم أنا لا أخاصم إلا من فوق الفلك وكان يَقُول أشعار كثيرة فِي هَذَا المعنى فمنها قوله فِي صفة الدنيا قَالَ:
أتراها صنعة من غير صانع … أم تراها رمية من رام
وقوله:
واحيرتا من وجود مَا تقدمه … منا1 اختيار ولا علم فيقتبس
كأنه فِي عماء مَا يخلصنا … مِنْهُ ذكاء ولا عقل ولا شرس2
ونحن فِي ظلمة مَا إن لها قمر … فيها يضيء ولا شمس ولا قبس
مدلهين حيارى قد تكنفنا … جهل يجهمنا3 فِي وجهه عبس
فالفعل فيه بلا ريب ولا عمل … والقول فيه كلام كله هوس
فصل: ولما كانت الفلاسفة قريبا من زمان شريعتنا والرهبنة كذلك مد بعض أهل ملتنا يده إِلَى التمسك بهذه وبعضهم مد يده إِلَى التمسك بهذه فترى كثيرا من الحمقى إذا نظروا فِي باب الاعتقاد تفلسفوا وإذا نظروا فِي باب التزهد ترهبنوا فنسأل اللَّه ثباتا عَلَى ملتنا وسلامة من عدونا إِنَّهُ ولي الإباحة


ــــــــــــــــــــــــــ

 تلبيس إبليس، بن الجوزي، ص 43 ~46

إرسال تعليق

0 تعليقات