إطار تشريعي متكامل لخفض الانبعاثات الكربونية في الجزائر: رؤية استراتيجية للوفاء بالالتزامات الدولية وتحقيق التنمية المستدامة
مقدمة تنفيذية
يمثل تغير المناخ أحد أبرز التحديات العالمية التي تتطلب استجابة منسقة وفعالة على كافة الأصعدة. وفي هذا السياق، تكتسب جهود
خفض الانبعاثات الكربونية أهمية استراتيجية قصوى، ليس فقط كالتزام أخلاقي تجاه البيئة، بل كضرورة اقتصادية لتحقيق التنمية المستدامة وتنويع مصادر الدخل. لقد تبنت الجزائر، إدراكًا منها لهذا البعد الحيوي، مسارًا للتحول البيئي كخيار استراتيجي يتناغم مع التزاماتها الدولية، وعلى رأسها اتفاق باريس للمناخ.
الجزء الأول: مراجعة وتحليل التشريعات البيئية القائمة
1.1. الإطار القانوني الحالي وتطوره
يستند الإطار التشريعي البيئي في الجزائر إلى تاريخ من التطور المستمر، الذي بدأ مع إصدار أول قانون لحماية البيئة في عام 1983 (القانون 83-03).
1.2. تحليل نقاط القوة والقصور
يتمتع الإطار القانوني الجزائري بعدة نقاط قوة أساسية، تتمثل في وجود قاعدة تشريعية عامة تحمي البيئة ومكوناتها.
ومع ذلك، تواجه هذه التشريعات عدة تحديات جوهرية، أبرزها قصورها في التعامل مع قضية الانبعاثات الكربونية بشكل محدد ومباشر. فالقوانين الحالية هي قوانين "حماية عامة" للبيئة، تنظم حماية الهواء والماء والتربة
تتمثل الفجوة الأكثر وضوحًا في الإطار التشريعي في معوقات التطبيق والرقابة. فالمصادر تشير إلى أن آليات مثل تقييم الأثر البيئي تعاني من تحديات في التنفيذ الفعال نتيجة لنقص الخبرات والأشخاص المتخصصين في الإدارة والقضاء.
الجدول 1: تقييم الإطار التشريعي البيئي الجزائري الحالي (القانون 03-10) في سياق مكافحة الانبعاثات.
الجزء الثاني: صياغة أهداف تشريعية واضحة وقابلة للقياس
2.1. الالتزامات الدولية كمرتكز
تعتبر الالتزامات الدولية حجر الزاوية في أي إطار تشريعي وطني يهدف إلى مكافحة التغير المناخي. فالجزائر طرف في اتفاق باريس للمناخ، الذي يهدف إلى الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض وإبقاء الزيادة دون درجتين مئويتين مع السعي لحصرها عند 1.5 درجة مئوية.
تغطي المساهمة المبدئية للجزائر (INDC)، التي تم تقديمها عام 2015، الفترة 2021-2030 وتستهدف قطاعات حيوية مثل الطاقة، الصناعة، النقل، والزراعة.
2.2. الأهداف الكمية والقطاعية المقترحة
لتحويل الالتزامات إلى واقع، يجب أن يتضمن الإطار التشريعي أهدافاً واضحة وقابلة للقياس (KPIs)، على أن تُحدد بأطر زمنية محددة. ينبغي أن يتم ذلك بالتركيز على القطاعات ذات الانبعاثات الأكبر، مع الأخذ في الاعتبار تجارب الدول الأخرى. فعلى سبيل المثال، تظهر التجربة الألمانية تقدماً ملحوظاً في خفض انبعاثات قطاع الطاقة بفضل زيادة حصة الطاقة المتجددة التي شكلت 54% من استهلاك الكهرباء.
لذلك، يُقترح أن يحدد التشريع الجديد أهدافاً قطاعية على النحو التالي:
قطاع الطاقة: تحديد هدف لزيادة حصة الطاقات المتجددة في مزيج الطاقة الوطني، مع وضع خطة واضحة للتوقف التدريجي عن الاعتماد على الوقود الأحفوري في توليد الكهرباء.
قطاع النقل: وضع أهداف لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من النقل، التي غالبًا ما تتأخر عن القطاعات الأخرى. يمكن تحقيق ذلك من خلال تشريعات تدعم استخدام المركبات الكهربائية وتطوير البنية التحتية للنقل العام المستدام.
قطاع الصناعة: استهداف الصناعات كثيفة الانبعاثات مثل الصلب والكيماويات
، عبر تشريعات تحفز على تبني تقنيات الإنتاج منخفض الانبعاثات.الزراعة والغابات: وضع آليات تشريعية لتعزيز الزراعة المستدامة وزيادة الرقعة الغابية، لما لها من دور في تعزيز مصارف الكربون الطبيعية.
الجدول 2: أهداف مقترحة لخفض الانبعاثات الكربونية في الجزائر بحلول 2030 و 2050 (حسب القطاع).
الجزء الثالث: آليات التنفيذ والرقابة
3.1. الأدوات الاقتصادية المبتكرة
يجب أن تتجاوز التشريعات المقترحة المقاربة التقليدية القائمة على العقوبة، وأن تتبنى أدوات اقتصادية مبتكرة توفر حوافز مالية للتحول. تشير المصادر إلى أن آليات تسعير الكربون، مثل ضريبة الكربون أو نظام تداول الانبعاثات (ETS)، تُعتبر من أهم الأدوات الفعالة في هذا المجال.
ضريبة الكربون: تفرض رسومًا محددة على كل طن من ثاني أكسيد الكربون المنبعث، مما يرفع تكلفة الانبعاثات ويشجع الشركات على خفضها.
نظام تداول الانبعاثات (ETS): يضع سقفًا إجماليًا للانبعاثات المسموح بها ويمنح الشركات تصاريح قابلة للتداول، مما يسمح للسوق بتحديد سعر الكربون بناءً على العرض والطلب.
الصين لديها أكبر نظام تداول للانبعاثات في العالم، وقد أظهرت دراسات فعاليته في خفض انبعاثات الشركات، على الرغم من أن أسعار الكربون لا تزال منخفضة نسبياً.
إن الانتقال من التعامل مع التلوث كـ"ضرر" بيئي يستوجب عقوبة، إلى التعامل معه كـ"تكلفة" اقتصادية يجب على الملوث تحملها، يمثل تحولاً جوهرياً في الفلسفة التشريعية. هذه المقاربة توفر حافزًا مستمرًا للشركات لخفض الانبعاثات بشكل مستقل عن الإعانات الحكومية، وتسرع من التحول نحو الطاقة النظيفة.
ومع ذلك، يجب التعامل بحذر مع التحديات الاجتماعية لهذه الآليات. فضرائب الكربون وأسواقها قد تؤثر بشكل غير متناسب على الفئات الفقيرة، مما يستلزم إقرار برامج حماية اجتماعية مصاحبة للإصلاح التشريعي.
3.2. الحوافز والمحفزات
تعتبر الحوافز المالية أداة استراتيجية فعالة لتحفيز القطاع الخاص على الاستثمار في خفض الانبعاثات.
إعانات مباشرة وتمويل ميسر: لتمويل مشاريع الطاقة المتجددة وتقنيات كفاءة الطاقة.
إعفاءات ضريبية وجمركية: على المعدات والتجهيزات الخاصة بالتقنيات النظيفة.
عقود الفروقات الكربونية (Carbon Contracts for Difference): وهي أداة مبتكرة تستخدمها ألمانيا لتعويض الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة عن التكلفة الإضافية للتحول إلى الإنتاج النظيف.
3.3. العقوبات الرادعة
لضمان الالتزام، يجب تطوير الإطار العقابي القائم. يُقترح وضع عقوبات مالية وإدارية تصاعدية، مرتبطة بمستوى الانبعاثات وتجاوز الأهداف المحددة، لتعمل كعامل ردع فعال.
3.4. إطار الرقابة والتحقق (MRV)
لا يمكن لأي سياسة أن تكون فعالة دون وجود نظام قوي للقياس والإبلاغ والتحقق (MRV).
الجدول 3: تحليل مقارن لآليات تسعير الكربون.
الجزء الرابع: دمج التكنولوجيا والابتكار
4.1. الإطار التشريعي للطاقة المتجددة
تعتبر الطاقة المتجددة ركيزة أساسية لخفض الانبعاثات، ويجب أن يدعمها إطار تشريعي محكم. يمكن للجزائر الاستفادة من تجارب دولية ناجحة في هذا المجال. على سبيل المثال، توضح القوانين الأردنية ضرورة وجود آليات مثل "قانون الطاقة المتجددة وترشيد الطاقة" الذي يشمل قواعد لربط أنظمة الطاقة المتجددة بالشبكة الكهربائية باستخدام "عدادات صافي القياس".
4.2. دعم الابتكار الأخضر والشركات الناشئة
يجب أن تتجاوز التشريعات مجرد التنظيم لتشجيع الابتكار في التقنيات النظيفة. يمكن أن يستلهم الإطار التشريعي الجزائري من الاستراتيجية الوطنية للابتكار في الإمارات العربية المتحدة، والتي تركز على دعم حاضنات الابتكار وبناء القدرات الوطنية في مجالات العلوم والتكنولوجيا.
إن التحول التشريعي من مجرد التنظيم إلى خلق بيئة حاضنة للابتكار يحفز الاستثمار الخاص ويخلق وظائف خضراء جديدة.
| المبادرة التشريعية | الهدف | الجهة المسؤولة | نموذج دولي للاقتداء به |
| تحديث قانون الطاقة المتجددة | تسهيل دمج الطاقة المتجددة في الشبكة وتفعيل عدادات صافي القياس. | وزارة الطاقة، هيئة تنظيم الكهرباء. | الأردن |
| قانون الشركات الناشئة الخضراء | تقديم حوافز ضريبية ومالية للشركات الناشئة في مجال التقنيات النظيفة. | وزارة اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة، وزارة المالية. | الإمارات العربية المتحدة |
| صندوق تمويل الابتكار الأخضر | إنشاء صندوق لتمويل مشاريع الأبحاث التطبيقية في مجال الطاقة النظيفة. | وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الصندوق الجزائري لتمويل المؤسسات الناشئة. | (ألمانيا، عقود الفروقات) |
الجدول 4: مبادرات تشريعية مقترحة لدعم الابتكار والتقنيات النظيفة.
الجزء الخامس: التنسيق والتعاون الدولي
5.1. تعزيز دور الجزائر في الساحة الدولية
تلتزم الجزائر بتعزيز قدراتها الوطنية للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة وتطوير آليات التكيف مع آثار تغير المناخ.
5.2. التمويل المناخي
يجب أن يدمج الإطار التشريعي الجديد آليات لاستقطاب التمويل المناخي من الجهات الدولية، مثل صندوق المناخ الأخضر ومرفق البيئة العالمي.
الجزء السادس: المشاركة المجتمعية والشراكة مع القطاع الخاص
6.1. تمكين القطاع الخاص
يعد القطاع الخاص شريكًا أساسيًا وفاعلاً في عملية التحول البيئي.
6.2. تفعيل دور المجتمع المدني
على الرغم من أن القانون 03-10 يمنح الجمعيات البيئية أدواراً استشارية، إعلامية، وحق التقاضي
مراجعة القوانين المنظمة لعمل الجمعيات لتبسيط الإجراءات الإدارية والمالية.
وضع برامج دعم مالي وتدريبي لتعزيز قدرات الجمعيات.
إلزام الجهات الحكومية باستشارة الجمعيات في صياغة السياسات والمشاريع البيئية.
إن دمج الأهداف الاجتماعية مثل تمكين المرأة والشباب في مبادرات الاقتصاد الأخضر، كما هو الحال في مشروع "الحوكمة المناخية 2"
خاتمة وتوصيات استراتيجية
يُظهر التحليل أن الإطار التشريعي البيئي في الجزائر، على الرغم من صلابته في مبادئه العامة، يحتاج إلى تحديث جذري ليصبح أداة فعالة في مواجهة التحديات النوعية للانبعاثات الكربونية. هناك فرصة استراتيجية للبناء على الالتزامات الدولية والمشاريع القائمة لإحداث نقلة نوعية.
بناءً على ما تقدم، يوصى بالآتي:
المراجعة الشاملة للإطار التشريعي: إصدار "قانون إطار" مخصص لخفض الانبعاثات الكربونية، يدمج الأدوات الاقتصادية وآليات التكنولوجيا والابتكار.
إقرار آلية تسعير الكربون: البدء بدراسة جدوى تفصيلية لتبني نظام تداول الانبعاثات أو ضريبة الكربون، مع وضع خطة لبرامج حماية اجتماعية مصاحبة.
دعم الابتكار والتحول الطاقي: وضع حوافز واضحة للاستثمار في الطاقات المتجددة والشركات الناشئة، مع تحديث قواعد توصيل الشبكة الوطنية لضمان التكامل الفعال.
تعزيز الحوكمة التشاركية: مراجعة القوانين المنظمة لعمل القطاع الخاص والمجتمع المدني لتعزيز دورهما من مجرد "رقابة" إلى "شراكة" حقيقية في التخطيط والتنفيذ.
تطوير منظومة الرقابة: الاستثمار في بناء القدرات التقنية والمؤسسية لإنشاء نظام قوي للقياس والإبلاغ والتحقق (MRV)، بما يضمن الشفافية والمصداقية.
إن التحول نحو اقتصاد منخفض الكربون في الجزائر يجب أن يكون عملية متكاملة، لا تقتصر على الجانب البيئي فقط، بل تشمل الأبعاد الاقتصادية، الاجتماعية، والحوكمة، بما يضمن تحقيق التنمية المستدامة للأجيال القادمة.
.jpg)