وكان جرجيس- فيما ذكر- عبدا لله صالحا من أهل فلسطين، ممن ادرك بقايا من حواريي عيسى بن مريم، وكان تاجرا يكسب بتجارته ما يستغني به عن الناس، ويعود بالفضل على أهل المسكنة وإنه تجهز مرة إلى ملك بالموصل، كما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عن وهب بن منبه وغيره من أهل العلم: أنه كان بالموصل داذانه، وكان قد ملك الشام كله، وكان جبارا عاتيا لا يطيقه إلا الله تعالى وكان جرجيس رجلا صالحا من أهل فلسطين، وكان مؤمنا يكتم إيمانه في عصبة معه صالحين، يستخفون بإيمانهم، وكانوا قد أدركوا بقايا من الحواريين فسمعوا منهم، وأخذوا عنهم وكان جرجيس كثير المال، عظيم التجارة، عظيم الصدقة، فكان يأتي عليه الزمان يتلف ماله في الصدقة حتى لا يبقى منه شيء، حتى يصير فقيرا، ثم يضرب الضربة فيصيب مثل ماله أضعافا مضاعفة، فكانت هذه حاله في المال وكان إنما يرغب في المال، ويعمره ويكسبه من أجل الصدقة، لولا ذلك كان الفقر أحب إليه من الغنى. وكان لا يأمن ولاية المشركين عليه مخافة أن يؤذوه في دينه، أو يفتنوه عنه، فخرج يؤم ملك الموصل، ومعه مال يريد أن يهديه له، لئلا يجعل لأحد من تلك الملوك عليه سلطانا دونه، فجاءه حين جاءه، وقد برز في مجلس له، وعنده عظماء قومه وملوكهم، وقد أوقد نارا، وقرب أصنافا من أصناف العذاب الذي كان يعذب به من خالفه، وقد أمر بصنم يقال له: أفلون فنصب، فالناس يعرضون عليه، فمن لم يسجد له ألقي في تلك النار، وعذب بأصناف ذلك العذاب فلما رأى جرجيس ما يصنع فظع بهوأعظمه، وحدث نفسه بجهاده، وألقى الله في نفسه بغضه ومحاربته، فعمد إلى المال الذي أراد أن يهديه له فقسمه في أهل ملته حتى لم يبق منه شيئا، وكره أن يجاهده بالمال، وأحب أن يلي ذلك بنفسه، فاقبل عليه عند ما كان أشد غضبا وأسفا، فقال له: اعلم أنك عبد مملوك لا تملك لنفسك شيئا ولا لغيرك، وأن فوقك ربا هو الذي يملكك وغيرك، وهو الذي خلقك ورزقك، وهو الذي يحييك ويميتك، ويضرك وينفعك، وأنت قد عمدت إلى خلق من خلقه- قَالَ له: كن فكان- أصم أبكم، لا ينطق ولا يبصر ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع، ولا يغني عنك من الله شيئا، فزينته بالذهب والفضة لتجعله فتنة للناس، ثم عبدته دون الله، وأجبرت عليه عباد الله، ودعوته ربا. فكلم الملك جرجيس بنحو هذا، من تعظيم الله وتمجيده، وتعريفه أمر الصنم، وأنه لا تصلح عبادته فكان من جواب الملك إياه مسألته إياه عنه، ومن هو؟ ومن أين هو؟ فأجابه جرجيس أن قَالَ: أنا عبد الله وابن عبده وابن أمته، أذل عباده وأفقرهم إليه، من التراب خلقت، وفيه أصير وأخبره ما الذي جاء به وحاله وإنه دعا ذلك الملك جرجيس إلى عبادة الله ورفض عبادة الأوثان وإن الملك دعا جرجيس إلى عبادة الصنم الذي يعبده، وقال: لو كان ربك الذي تزعم أنه ملك الملوك كما تقول، لرئى عليك أثره كما ترى أثري على من حولي من ملوك قومي. فأجابه جرجيس بتمجيد الله وتعظيم أمره وقال له- فيما قَالَ: أين تجعل طرقبلينا، وما نال بولايتك، فإنه عظيم قومك، من إلياس، وما نال إلياس بولاية الله! فإن إلياس كان بدؤه آدميا يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، فلم تتناه به كرامة الله حتى أنبت له الريش، وألبسه النور فصار إنسيا ملكيا، سمائيا أرضيا، يطير مع الملائكة وحدثني: أين تجعل مجليطيس، وما نال بولايتك: فانه عظيم قومك، من المسيح بن مريم وما نال بولاية الله! فإن الله فضله على رجال العالمين، وجعله وأمه آية للمعتبرين. ثم ذكر من أمر المسيح ما كان الله خصه به من الكرامة وقال أيضا: وحدثني: أين تجعل أم هذا الروح الطيب التي اختارها الله لكلمته، وطهر جوفها لروحه، وسودها على إمائه؟ فأين تجعلها وما نالت بولاية الله، من أزبيل وما نالت بولايتك؟ فإنها إذ كانت من شيعتك وملتك أسلمها الله عند عظيم ملكها إلى نفسها، حتى اقتحمت عليها الكلاب في بيتها، فانتهشت لحمها وولغت دمها، وجرت الثعالب والضباع أوصالها! فأين تجعلها وما نالت بولايتك من مريم ابنة عمران وما نالت بولاية الله! فقال له الملك: إنك لتحدثنا عن أشياء ليس لنا بها علم، فأتني بالرجلين اللذين ذكرت أمرهما، حتى أنظر إليهما، وأعتبر بهما، فإني أنكر أن يكون هذا في البشر. فقال له جرجيس: إنما جاءك الإنكار من قبل الغرة بالله، وأما الرجلان فلن تراهما ولن يرياك، إلا أن تعمل بعملهما، فتنزل منازلهما. فقال له الملك: أما نحن فقد أعذرنا إليك، وقد تبين لنا كذبك، لأنك فخرت بأمور عجزت عنها، ولم تأت بتصديقها ثم خير الملك جرجيس بين العذاب وبين السجود لأفلُّون، فيثيبه! فقال له جرجيس: إن كان أفلون هو الذي رفع السماء- وعدد عليه أشياء من قدرة الله- فقد أصبت ونصحت لي، وإلا فاخسأ أيها النجس الملعون! فلما سمعه الملك يسبه ويسب آلهته غضب من قوله غضبا شديدا، وأمر بخشبة فنصبت له للعذاب، وجعلت عليه أمشاط الحديد، فخدش بها جسده حتى تقطع لحمه وجلده وعروقه، ينضح خلال ذلك بالخل والخردل. فلما رأى ذلك لم يقتله، أمر بستة مسامير من حديد فأحميت حتى إذا جعلت نارا، أمر بها فسمر بها رأسه حتى سال منه دماغه فلما رأى ذلك لم يقتله، أمر بحوض من نحاس، فأوقد عليه حتى إذا جعله نارا أمر به فأدخل في جوفه، وأطبق عليه، فلم يزل فيه حتى برد حره. فلما رأى ذلك لم يقتله، دعا به فقال: ألم تجد ألم هذا العذاب الذي تعذب به! فقال له جرجيس: أما أخبرتك أن لك ربا هو أولى بك من نفسك! قَالَ: بلى قد أخبرتني، قَالَ: فهو الذي حمل عني عذابك، وصبرني ليحتج عليك فلما قَالَ له ذلك أيقن بالشر، وخافه على نفسه وملكه، وأجمع رأيه على أن يخلده في السجن، فقال الملأ من قومه: إنك إن تركته طليقا يكلم الناس أوشك أن يميل بهم عليك، ولكن مر له بعذاب في السجن يشغله عن كلام الناس فأمر فبطح في السجن على وجهه، ثم أوتد في يديه ورجليه أربعة أوتاد من حديد، في كل ركن منها وتد، ثم أمر بأسطوان من رخام، فوضع على ظهره حمل ذلك الأسطوان سبعة رجال فلم يقلوه، ثم أربعة عشر رجلا فلم يقلوه، ثم ثمانية عشر رجلا فأقلوه، فظل يومه ذلك موتدا تحت الحجر. فلما أدركه الليل أرسل الله إليه ملكا- وذلك أول ما أيد بالملائكة، وأول ما جاءه الوحي- فقلع عنه الحجر، ونزع الأوتاد من يديه ورجليه، وأطعمه وسقاه، وبشره وعزاه، فلما أصبح أخرجه من السجن، وقال له: الحق بعدوك فجاهده في الله حق جهاده، فإن الله يقول لك: أبشر واصبر، فإني أبتليك بعدوي هذا سبع سنين، يعذبك ويقتلك فيهن أربع مرار، في كل ذلك أرد إليك روحك، فإذا كانت القتلة الرابعة تقبلت روحك وأوفيتك أجرك فلم يشعر الآخرون إلا وقد وقف جرجيس على رؤوسهم يدعوهم إلى الله. فقال له الملك: أجرجيس! قَالَ: نعم، قَالَ: من أخرجك من السجن؟
قَالَ: أخرجني الذي سلطانه فوق سلطانك فلما قَالَ له ذلك مليء غيظا، فدعا بأصناف العذاب حتى لم يخلف منها شيئا، فلما رآها جرجيس تصنف له، أوجس في نفسه خيفة وجزعا، ثم أقبل على نفسه يعاتبها بأعلى صوته، وهم يسمعون فلما فرغ من عتابه نفسه مدوه بين خشبتين، ووضعوا عليه سيفا على مفرق راسه، فوشروه حتى سقط بين رجليه، وصار جزلتين، ثم عمدوا إلى جزلتيه، فقطعوهما قطعا وله سبعة أسد ضارية في جب، وكانت صنفا من أصناف عذابه، ثم رموا بجسده إليها، فلما هوى نحوها أمر الله الأسد فخضعت برءوسها وأعناقها، وقامت على براثنها، لا تألو أن تقيه الأذى، فظل يومه ذلك ميتا، فكانت أول ميتة ذاقها فلما أدركه الليل جمع الله له جسده الذي قطعوه بعضه على بعض، حتى سواه ثم رد فيه روحه وأرسل ملكا فأخرجه من قعر الجب، وأطعمه وسقاه، وبشره وعزاه. فلما أصبحوا قَالَ له الملك: يا جرجيس، قَالَ: لبيك! قَالَ: اعلم أن القدرة التي خلق آدم بها من تراب هي التي أخرجتك من قعر الجب، فالحق بعدوك ثم جاهده في الله حق جهاده، ومت موت الصابرين. فلم يشعر الآخرون إلا وقد أقبل جرجيس، وهم عكوف على عيد لهم قد صنعوه فرحا- زعموا بموت جرجيس- فلما نظروا إلى جرجيس مقبلا، قَالُوا: ما أشبه هذا بجرجيس! قَالُوا: كأنه هو؟ قَالَ الملك: ما بجرجيس من خفاء، إنه لهو! ألا ترون إلى سكون ريحه، وقلة هيبته قَالَ جرجيس: بلى، أنا هو حقا! بئس القوم أنتم! قتلتم ومثلتم، فكان الله- وحق له- خيرا وأرحم منكم. أحياني ورد علي روحي هلم إلى هذا الرب العظيم الذي أراكم ما أراكم. فلما قَالَ لهم ذلك، أقبل بعضهم على بعض، فقالوا: ساحر سحر أيديكم وأعينكم عنه فجمعوا له من كان ببلادهم من السحرة، فلما جاء السحرة، قَالَ الملك لكبيرهم: اعرض علي من كبير سحرك ما تسرى به عني، قَالَ له: ادع لي بثور من البقر، فلما أتي به نفث في إحدى أذنيه فانشقت باثنتين، ثم نفث في الأخرى، فإذا هو ثوران، ثم أمر ببذر فحرث وبذر، ونبت الزرع، وأينع وحصد، ثم داس وذري، وطحن وعجن، وخبز وأكل ذلك في ساعة واحدة كما ترون! قَالَ له الملك: هل تقدر على أن تمسخه لي دابة؟ قَالَ الساحر: أي دابة أمسخه لك؟ قَالَ: كلبا، قَالَ: ادع لي بقدح من ماء، فلما أتي بالقدح نفث فيه الساحر، ثم قَالَ للملك: اعزم عليه أن يشربه، فشربه جرجيس حتى أتى على آخره، فلما فرغ منه قَالَ له الساحر: ماذا تجد؟ قَالَ: ما أجد إلا خيرا، قد كنت عطشت فلطف الله لي بهذا الشراب، فقواني به عليكم فلما قَالَ له ذلك أقبل الساحر على الملك فقال: اعلم أيها الملك، أنك لو كنت تقاسي رجلا مثلك إذا كنت غلبته، ولكنك تقاسي جبار السموات، وهو الملك الذي لا يرام! وقد كانت امرأة مسكينة، سمعت بجرجيس وما يصنع من الأعاجيب، فأتته وهو في أشد ما هو فيه من البلاء، فقالت له: يا جرجيس، إني امرأة مسكينة، لم يكن لي مال ولا عيش إلا ثور كنت أحرث عليه فمات، وجئتك لترحمني وتدعو الله أن يحيي لي ثوري فذرفت عيناه ثم دعا الله أن يحيي لها ثورها، وأعطاها عصا، فقال: اذهبي إلى ثورك، فاقرعيه بهذه العصا وقولي له: احي بإذن الله فقالت: يا جرجيس مات ثوري منذ أيام، وتفرقته السباع، وبيني وبينك أيام، فقال: لو لم تجدي منه إلا سنا واحدة ثم قرعتها بالعصا لقام بإذن الله فانطلقت حتى أتت مصرع ثورها، فكان أول شيء بدا لها من ثورها أحد روقيه وشعر ذنبه، فجمعت أحدهما إلى الآخر، ثم قرعتهما بالعصا التي أعطاها، وقالت كما أمرها، فعاش ثورها، وعملت عليه حتى جاءهم الخبر بذلك. فلما قَالَ الساحر للملك ما قَالَ، قَالَ رجل من أصحاب الملك- وكان أعظمهم بعد الملك: اسمعوا مني أيها القوم أحدثكم، قَالُوا: نعم، فتكلم، قَالَ: إنكم قد وضعتم أمر هذا الرجل على السحر، وزعمتم أنه سحر أيديكم عنه وأعينكم فأراكم أنكم تعذبونه، ولم يصل إليه عذابكم! وأراكم أنكم قد قتلتموه فلم يمت، فهل رأيتم ساحرا قط قدر أن يدرأ عن نفسه الموت، أو أحيا ميتا قط! ثم قص عليهم فعل جرجيس، وفعلهم به، وفعله بالثور وصاحبته، واحتج عليهم بذلك كله، فقالوا له: إن كلامك لكلام رجل قد أصغى إليه، قَالَ: ما زال أمره لي معجبا منذ رأيت منه ما رأيت، قَالُوا له: فلعله استهواك! قَالَ: بل آمنت وأشهد الله أني بريء مما تعبدون فقام إليه الملك وصحابته بالخناجر، فقطعوا لسانه، فلم يلبث أن مات، وقالوا: أصابه الطاعون، فأعجله الله قبل أن يتكلم فلما سمع الناس بموته أفزعهم، وكتموا شأنه، فلما رآهم جرجيس يكتمونه برز للناس، فكشف لهم أمره، وقص عليهم كلامه، فاتبعه على كلامه أربعة آلاف وهو ميت، فقالوا: صدق، ونعم ما قَالَ! يرحمه الله! فعمد إليهم الملك فأوثقهم، ثم لم يزل يلون لهم العذاب ويقتلهم بالمثلات. حتى أفناهم. فلما فرغ منهم أقبل على جرجيس، فقال له: هلا دعوت ربك. فأحيا لك أصحابك، هؤلاء الذين قتلوا بجريرتك! فقال له جرجيس ما خلى بينك وبينهم حتى خار لهم فقال رجل من عظمائهم يقال له مجليطيس: إنك زعمت يا جرجيس أن الهك هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وإني سائلك أمرا إن فعله إلهك آمنت بك وصدقتك، وكفيتك قومي هؤلاء، هذه تحتنا أربعة عشر منبرا حيث ترى، ومائدة بيننا عليها أقداح وصحاف، وكل صنع من الخشب اليابس، ثم هو من أشجار شتى، فادع ربك ينشئ هذه الآنية وهذه المنابر، وهذه المائدة، كما بدأها أَوَّلَ مَرَّةٍ، * حتى تعود خضرا نعرف كل عود منها بلونه وورقه وزهره وثمره. فقال له جرجيس: قد سألت أمرا عزيزا علي وعليك، وإنه على الله لهين فدعا ربه، فما برحوا مكانهم حتى اخضرت تلك المنابر، وتلك الآنية كلها، فساخت عروقها، وألبست اللحاء، وتشعبت، ونبت ورقها وزهرها وثمرها، حتى عرفوا كل عود منها باسمه ولونه وزهره وثمره. فلما نظروا إلى ذلك انتدب له مجليطيس، الذي تمنى عليه ما تمنى فقال: أنا أعذب لكم هذا الساحر عذابا يضل عنه كيده فعمد إلى نحاس فصنع منه صورة ثور جوفاء واسعة، ثم حشاها نفطا ورصاصا وكبريتا وزرنيخا، ثم أدخل جرجيس مع الحشو في جوفها، ثم أوقد تحت الصورة، فلم يزل يوقد حتى التهبت الصورة، وذاب كل شيء فيها واختلط، ومات جرجيس في جوفها فلما مات أرسل الله ريحا عاصفا، فملأت السماء سحابا أسود مظلما، فيه رعد لا يفتر، وبرق وصواعق متداركات، وأرسل الله إعصارا فملأت بلادهم عجاجا وقتاما، حتى اسود ما بين السماء والأرض وأظلم، ومكثوا أياما متحيرين في تلك الظلمة، لا يفصلون بين الليل والنهار. وأرسل الله ميكائيل فاحتمل الصورة التي فيها جرجيس، حتى إذا أقلها ضرب بها الأرض ضربا، فزع من روعته أهل الشام أجمعون، وكلهم يسمعه في ساعة واحدة، فخروا لوجوههم صعقين من شدة الهول، وانكسرت الصورة، فخرج منها جرجيس حيا، فلما وقف يكلمهم انكشفت الظلمة، وأسفر ما بين السماء والأرض، ورجعت اليهم انفسهم فقال له رجل منهم يقال له طرقبلينا: لا ندري يا جرجيس أنت تصنع هذه العجائب أم ربك؟ فإن كان هو الذي يصنعها، فادعه يحي لنا موتانا، فإن في هذه القبور التي ترى أمواتا من أمواتنا، منهم من نعرف ومنهم من مات قبل زماننا، فادعه يحيهم حتى يعودوا كما كانوا ونكلمهم، ونعرف من عرفنا منهم، ومن لا نعرف أخبرنا خبره فقال له جرجيس: لقد علمت ما يصفح الله عنكم هذا الصفح، ويريكم هذه العجائب إلا ليتم عليكم حججه، فتستوجبوا بذلك غضبه ثم أمر بالقبور فنبشت وهي عظام ورفات ورميم ثم أقبل على الدعاء فما برحوا مكانهم، حتى نظروا إلى سبعة عشر إنسانا: تسعة رهط وخمس نسوة وثلاثة صبية، فإذا شيخ منهم كبير، فقال له جرجيس: أيها الشيخ، ما اسمك؟ فقال: اسمي يوبيل، فقال: متى مت؟ قَالَ: في زمان كذا وكذا، فحسبوا فإذا هو قد مات منذ أربعمائة عام فلما نظر إلى ذلك الملك وصحابته، قَالُوا: لم يبق من أصناف عذابكم شيء إلا قد عذبتموه، إلا الجوع والعطش، فعذبوه بهما فعمدوا إلى بيت عجوز كبيرة فقيرة، كان حريزا، وكان لها ابن أعمى أبكم مقعد، فحصروه في بيتها فلا يصل إليه من عند أحد طعام ولا شراب فلما بلغه الجوع، قَالَ للعجوز: هل عندك طعام أو شراب؟ قالت: لا والذي يحلف به، ما عهدنا بالطعام منذ كذا وكذا،، وسأخرج وألتمس لك شيئا قَالَ لها جرجيس: هل تعرفين الله؟ قالت له: نعم، قَالَ: فإياه تعبدين؟ قالت: لا، قَالَ: فدعاها إلى الله فصدقته، وانطلقت تطلب له شيئا، وفي بيتها دعامة من خشبة يابسة تحمل خشب البيت، فأقبل على الدعاء، فما كان كشيء حتى اخضرت تلك الدعامة، فأنبتت كل فاكهة تؤكل أو تعرف، أو تسمى حتى كان فيما أنبتت اللياء واللوبياء. قال ابو جعفر: اللياء نبت بالشام له حب يؤكل وظهر للدعامة فرع من فوق البيت أظله وما حوله وأقبلت العجوز، وهو فيما شاء يأكل رغدا، فلما رأت الذي حدث في بيتها من بعدها، قالت: آمنت بالذي أطعمك في بيت الجوع، فادع هذا الرب العظيم ليشفي ابني، قَالَ: أدنيه مني، فأدنته منه، فبصق في عينيه فأبصر، فنفث في أذنيه فسمع، قالت له: أطلق لسانه ورجليه، رحمك الله! قَالَ: أخريه، فإن له يوما عظيما وخرج الملك يسير في مدينته، فلما نظر إلى الشجرة، قَالَ لأصحابه: إني أرى شجرة بمكان ما كنت أعرفها به، قَالُوا له: تلك الشجرة نبتت لذلك الساحر الذي أردت أن تعذبه بالجوع، فهو فيما شاء قد شبع منها، وشبعت الفقيرة وشفى لها ابنها فأمر بالبيت فهدم، وبالشجرة لتقطع، فلما هموا بقطعها أيبسها الله تعالى كما كانت أول مرة، فتركوها، وأمر بجرجيس فبطح على وجهه وأوتد له أربعة أوتاد، وأمر بعجل فأوقر أسطوانا ما حمل، وجعل في أسفل العجل خناجر وشفارا، ثم دعا بأربعين ثورا، فنهضت بالعجل نهضة واحدة، وجرجيس تحتها، فتقطع ثلاث قطع، ثم أمر بقطعة فأحرقت بالنار، حتى إذا عادت رمادا بعث بذلك الرماد رجالا فذروه في البحر، فلم يبرحوا مكانهم حتى سمعوا صوتا من السماء يقول: يا بحر، إن الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيب، فإني أريد أن أعيده كما كان ثم أرسل الله الرياح فأخرجته من البحر، ثم جمعته حتى عاد الرماد صبرة كهيئته قبل أن يذروه، والذين ذروه قيام لم يبرحوا ثم نظروا إلى الرماد يثور كما كان، حتى خرج منه جرجيس مغبرا ينفض رأسه، فرجعوا، ورجع جرجيس معهم، فلما انتهوا إلى الملك أخبروه خبر الصوت الذي أحياه، والريح التي جمعته فقال له الملك: هل لك يا جرجيس فيما هو خير لي ولك! فلولا أن يقول الناس إنك قهرتني وغلبتني لاتبعتك وآمنت بك، ولكن اسجد لأفلُّون سجدة واحدة، أو اذبح له شاة واحدة، ثم أنا أفعل ما يسرك. فلما سمع جرجيس هذا من قوله طمع أن يهلك الصنم حين يدخله عليه، رجاء أن يؤمن له الملك حين يهلك صنمه، وييئس منه، فخدعه جرجيس، فقال: نعم، إذا شئت فأدخلني على صنمك أسجد له، وأذبح له، ففرح الملك بقوله، فقام إليه فقبل يديه ورجليه ورأسه، وقال: إني أعزم عليك ألا تظل هذا اليوم، ولا تبيت هذه الليلة إلا في بيتي وعلى فراشي، ومع أهلي حتى تستريح ويذهب عنك وصب العذاب، فيرى الناس كرامتك علي. فأخلى له بيته، وأخرج منه من كان فيه فظل فيه جرجيس، حتى إذا أدركه الليل، قام يصلي، ويقرأ الزبور- وكان أحسن الناس صوتا- فلما سمعته امرأة الملك استجابت له، ولم يشعر إلا وهي خلفه تبكي معه، فدعاها جرجيس إلى الإيمان فآمنت، وأمرها فكتمت إيمانها فلما أصبح غدا به إلى بيت الأصنام ليسجد لها، وقيل للعجوز التي كان سجن في بيتها: هل علمت أن جرجيس قد فتن بعدك، وأصغى إلى الدنيا، وأطمعه الملك في ملكه، وقد خرج به إلى بيت أصنامه ليسجد لها! فخرجت العجوز في أعراضهم، تحمل ابنها على عاتقها، وتوبخ جرجيس، والناس مشتغلون عنها فلما دخل جرجيس بيت الأصنام، ودخل الناس معه، نظر فإذا العجوز وابنها على عاتقها أقرب الناس منه مقاما، فدعا ابن العجوز باسمه، فنطق بإجابته، وما تكلم قبل ذلك قط، ثم اقتحم عن عاتق أمه يمشى على رجليه سويتين، وما وطيء الأرض قبل ذلك قط بقدميه، فلما وقف بين يدي جرجيس قَالَ: اذهب، فادع لي هذه الأصنام، وهي حينئذ على منابر من ذهب، واحد وسبعون صنما، وهم يعبدون الشمس والقمر معها، فقال له الغلام: كيف أقول للأصنام؟ قَالَ: تقول لها: إن جرجيس يسألك ويعزم عليك بالذي خلقك إلا ما جئته فلما قَالَ لها الغلام ذلك، أقبلت تدحرج إلى جرجيس، فلما انتهت إليه ركض الأرض برجله، فخسف بها وبمنابرها، وخرج إبليس من جوف صنم منها هاربا فرقا من الخسف، فلما مر بجرجيس، أخذ بناصيته، فخضع له برأسه وعنقه، وكلمه جرجيس فقال له: أخبرني أيتها الروح النجسة، والخلق الملعون، ما الذي يحملك على أن تهلك نفسك، وتهلك الناس معك، وأنت تعلم أنك وجندك تصيرون إلى جهنم! فقال له إبليس: لو خيرت بين ما أشرقت عليه الشمس، وأظلم عليه الليل، وبين هلكة بني آدم وضلالتهم أو واحد منهم طرفة عين، لاخترت طرفة العين على ذلك كله، وإنه ليقع لي من الشهوة في ذلك واللذة مثل جميع ما يتلذذ به جميع الخلق ألم تعلم يا جرجيس أن الله أسجد لأبيك آدم جميع الملائكة، فسجد له: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وجميع الملائكة المقربين، وأهل السموات كلهم، وامتنعت من السجود، فقلت: لا أسجد لهذا الخلق وأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ! * فلما قَالَ هذا خلاه جرجيس، فما دخل إبليس منذ يومئذ جوف صنم، مخافة الخسف، ولا يدخله بعدها- فيما يذكرون- أبدا. وقال الملك: يا جرجيس خدعتني وغررتني، وأهلكت آلهتي، فقال له جرجيس: إنما فعلت ذلك عمدا لتعتبر ولتعلم أنها لو كانت آلهة كما تقول إذا لامتنعت مني، فكيف ثقتك ويلك بآلهة لم تمنع أنفسها مني! وإنما أنا مخلوق ضعيف لا أملك إلا ما ملكني ربي قَالَ: فلما قَالَ هذا جرجيس، كلمتهم امرأة الملك، وذلك حين كشفت لهم إيمانها، وباينتهم بدينها، وعددت عليهم أفعال جرجيس، والعبر التي أراهم وقالت لهم: ما تنتظرون من هذا الرجل الا دعوه فتخسف بكم الأرض فتهلكوا، كما هلكت أصنامكم الله الله أيها القوم في أنفسكم! فقال لها الملك: ويحا لك إسكندرة! ما أسرع ما أضلك هذا الساحر في ليلة واحدة! وأنا أقاسيه منذ سبع سنين، فلم يطق مني شيئا. قالت له: أفما رأيت الله كيف يظفره بك، ويسلطه عليك، فيكون له الفلج والحجة عليك في كل موطن! فأمر بها عند ذلك فحملت على خشبة جرجيس التي كان علق عليها، فعلقت بها، وجعلت عليها الأمشاط التي جعلت على جرجيس فلما ألمت من وجع العذاب قالت: ادع ربك يا جرجيس يخفف عني، فإني قد ألمت من العذاب فقال: انظري فوقك فلما نظرت ضحكت، فقال لها: ما الذي يضحكك؟ قالت: أرى ملكين فوقي، معهما تاج من حلي الجنة ينتظران به روحي أن تخرج، فإذا خرجت زيناها بذلك التاج، ثم صعدا بها إلى الجنة، فلما قبض الله روحها أقبل جرجيس على الدعاء، فقال: اللهم أنت الذي أكرمتني بهذا البلاء، لتعطيني به فضائل الشهداء! اللهم فهذا آخر أيامي الذي وعدتني فيه الراحة من بلاء الدنيا، اللهم فانى أسألك ألا تقبض روحي، ولا أزول من مكاني هذا حتى تنزل بهذا القوم المتكبرين من سطواتك ونقمتك ما لا قبل لهم به، وما تشفي به صدري، وتقر به عيني، فإنهم ظلموني وعذبوني اللهم وأسألك ألا يدعو بعدي داع في بلاء ولا كرب فيذكرني، ويسألك باسمي إلا فرجت عنه ورحمته وأجبته، وشفعتني فيه. فلما فرغ من هذا الدعاء، أمطر الله عليهم النار، فلما احترقوا عمدوا إليه فضربوه بالسيوف غيظا من شدة الحريق، ليعطيه الله تعالى بالقتلة الرابعة ما وعده فلما احترقت المدينة بجميع ما فيها، وصارت رمادا، حملها الله من وجه الأرض حتى أقلها، ثم جعل عاليها سافلها، فلبثت زمانا من الدهر يخرج من تحتها دخان منتن، لا يشمه أحد إلا سقم سقما شديدا، إلا أنها أسقام مختلفة، لا يشبه بعضها بعضا، فكان جميع من آمن بجرجيس، وقتل معه أربعة وثلاثين ألفا، وامرأة الملك رحمها الله!
0 تعليقات