أ - أعداء الداخل (في تنس).
عرفت الإدارة الإسبانية أنه لا قبل لها بفرض سيطرتها عن طريق القوة الغاشمة وحدها، فأخذت في العمل لاستخدام الوسيلة (التكميلية) عن طريق استثمار التناقضات الداخلية، والاستعانة بأعداء الداخل من الخونة. وتم للإدارة الإسبانية ذلك عندما أمكن لها توطيد علاقاتها مع الأعراب المحيطين (بالمرسى الكبير) والذي أطلق عليهم المسلمون اسم (المغطسين)
وزاد الأمر سوءا عندما وصلت الخيانة إلى مستوى الحكم. فقد تولى عرش بني زيان (في سنة 909 هـ = 1503 م) السلطان (أبو زيان الثالث) الملقب (بالمسعود). لكن عمه (أبا حمو) ثار عليه، وأخذ منه العرش وسجنه، وهنا تدخلت الإدارة الإسبانية لاستثمار هذا الموقف. فدعمت (يحيى الثابتي) شقيق الملك المخلوع السجين (أبي زيان السعيد) ودفعته للثورة على عمه. وأمكن له احتلال (تنيس) بحراب الإسبانيين ودعمهم. وجهز (أبو حمو الثالث) جيشه لقتال ابن أخيه (بتنيس)؛ ودارت بين الطرفين معارك طاحنة، لم تحقق لأحدهما الظفر على الآخر، وبقي (أبو حمو) بتلمسان، و (يحيى الثابتي في تنيس)
ب - وهران بعد المرسى الكبير:
كان الكاردينال الإسباني (خمينيس) يتابع هذه الفترة تجهيز حملته الكبرى للقضاء على المسلمين في المغرب، وما أن أكمل استعداداته حتى أبحر من مرسى قرطاجنة الإسباني في يوم (16 أيار - مايو - 1509) وهو يدفع قوة من (15) ألف مقاتل بقيادة (بطرس النافاري) ووصلت هذه الحملة إلى المرسى الكبير في اليوم التالي. ونزلت إلى البر دون أدنى عائق. وكان (حاكم المرسى الكبير) قد اتخذ كل الاستعدادات لمساعدة هذه الحملة، لا من أجل النزول في المرسى فحسب، وإنما أيضا من أجل بلوغ هدفها في (وهران) وذلك عندما تمكن من شراء ذمة قابض المكوس العام لمدينة وهران (اليهودي اشطورا) (1) من أجل مساعدة قوات الحملة الإسبانية على احتلال مدينة (وهران).
واستعد المجاهدون في وهران للقاء قوات العدو، واصطدموا بهذه القوات في ظاهر المدينة غير أن تفوق الإسبانيين بالقوى أرغمهم على العودة إلى المدينة للإفادة من تحصيناتها. وبينما كان المسلمون على الأسوار، كانت القوات الإسبانية تتجمع أمام أحد الأبواب الذي لم يلبث الخونة أن فتحوه فتدفقت جموع المقاتلين كالسيل الجارف تجتاح كل من يعترضها. وانسحب المجاهدون من الأسوار والأبراج للدفاع عن منازلهم، فيما كانت بقية القوة الإسبانية تتدفق من كل أبواب المدينة. ودارت مذبحة رهيبة سقط فيها أكثر من أربعة آلاف مسلم ومسلمة.
وعلى الرغم من ذلك استمرت فلول المجاهدين في مقاومتها لمدة خمسة أيام (حول المسجد الأعظم في حي الفقيه). ولم تتوقف المقاومة حتى قضي على المجاهدين، وانطلقت القوات الإسبانية تقتل وتأسر وتستبيح وتنتهب وتنتهك المحرمات - على مشهد من الكاردينال خمينيس - وبمباركته. وزاد عدد الأسرى الذين استعبدهم الإسبان عن ثمانية آلاف، ونهب رجال الحملة ما قدرت قيمته بـ (48) مليون دينار جزائري اقتسمها الجنود. وكان نصيب الكاردينال الموقر من الغنيمة وفيرا، وقد اتجه على الفور لأداء واجبه المقدس، وذلك بتحويل مساجد وهران إلى كنائس، وجعل المسجد الأعظم كاتدرائية (وكتب لمدينة وهران بعد ذلك، أن تبقى تحت ربقة الاستعمار الإسباني حتى سنة 1792).
وقد نتج عن انتصار الإسبانيين في وهران مجموعة من التحولات أبرزها:
1 - خضوع بني زيان للإسبانيين، واعتراف (أبو حمو الثالث) بتبعيته وخضوعه للحكم الإسباني وتقديم جزية سنوية مقدارها إثنا عشر ألف دوقة ذهبية (ما يعادل 288 ألف دينار جزائري).
2 - خضوع رجال قبائل (بني عامر) وغيرهم من الأعراب الواقعين ضمن دائرة وهران الإسبانية للحكم الإسباني، وأصبحوا له أعوانا وجنودا وعيونا
ج - احتلال بجاية:
تقع بجاية على مجرى وادي الصومام الذي يجترق الجبائل القبائلية عند مدينة (أقبو) ونظرا لأهمية موقعها، وللمكانة الدينية التي كانت تحتلها فقد كانت الهدف التالي للكاردينال (خمينيس) الذي أمضى وقتا بالاستعداد لنقل ثقل الهجوم من اتجاه المغرب إلى اتجاه المشرق.
وبدأت عملية احتلال بجاية بمناورة خداعية، إذ ركب الجيش الإسباني السفن وغادر المرسى الكبير يوم 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 1509. حتى إذا ما وصل إلى جزر (الباليئار) وصلته قوة دعم إضافية. ثم أقلع الأسطول الإسباني من جزر الباليئار بقوة (20) سفينة كبيرة تحمل (10) آلاف مقاتل، مدعمة بالمدفعية الضخمة وآلات الحصار. ووصلت قوات هذه الحملة إلى مدينة بجاية يوم 5 كانون الثاني (يناير) 1510. وبدأت المعركة على الفور بتبادل نيران المدفعية بين حامية بجاية والأسطول الإسباني. وتسلق المجاهدون مرتفعات جبال (التورايا). بهدف منع الإسبانيين من النزول إلى البر. غير أن مدفعية السفن البحرية المتفوهة ساعدت على إنزال القوات. وأسرع أهل بجاية بإخلاء المدينة من النساء والأطفال، وتم إرسالهم إلى (جيجل) فيما احتلت بقية القوات مواقعها في المدينة للدفاع عنها.
قسم قائد الحملة (بدرو نافرو) قواته إلى فرقتين: واجب الفرقة الأولى مجابهة قوة المجاهدين في جبال (التورايا)، وواجب الفرقة الثانية الانقضاض على (بجاية) واقتحامها. ودارت معارك دامية أسفرت عن انتصار الإسبانيين وإبادتهم لأكثر من أربعة آلاف مسلم. وتدميرهم للمدينة دمارا تاما تقريبا، والقضاء على كل المعالم العمرانية والدينية والأثرية في المدينة.
وأدى الانتصار المباشر للإسبانيين على حامية بجاية إلى تحقيق مجموعة من الانتصارات غير المباشرة والتي حصلت فيها إسبانيا على (غنائم) تزيد في حجمها وأهميتها على نتائج الانتصار المباشر، لا سيما وأن هذه الانتصارات غير المباشرة قد حدثت بدون صدام، وبدون إهراق قطرة دم واحدة، وكان من بين هذه الانتصارات - غير المباشرة -:
1 - خضوع السلطان الحفصي بتونس (أبو عبد الله عم المتوكل) للسلطات الإسبانية، وقبوله بدفع الجزية
2 - خضوع الجزائر التي أصبحت مطوقة من الشرق ومن الغرب (بجاية ووهران)، وتعهد حاكمها (الشيخ سالم بن التومي) بدفع الجزية، وموافقة أهلها على تسليم جزيرة (اسطفلة) المقابلة للجزائر من أجل إقامة قاعدة بحرية إسبانية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
0 تعليقات